مقعد القطار رقم 9

في أحد شوارع بغداد المظلمة عام 2013، كان الليل ينشر رداءه الأسود، والمدينة لا تزال تتنفس بصعوبة تحت وطأة الأوضاع الأمنية المتوترة. هناك، في زقاق ضيق حيث الأضواء خافتة والهواء مفعم برائحة المطر والغبار، كان عمر يسير بخطوات واثقة، محاطًا بظله الثقيل. كان شابًا في أواخر العشرينات، هادئًا، متدينًا، يحمل في قلبه إيمانًا عميقًا، وكان كل من يعرفه يشهد له بحسن الخلق والمودة. لكنه لم يكن وحده تمامًا، ففي داخله صوت آخر، شخصية أخرى، شيطان مختبئ يُدعى محمد.
محمد لم يكن مجرد وهم أو نزوة عابرة، بل كان حقيقة أخرى تعيش داخل عمر، وجهًا آخر من نفس الروح، مختلفًا عنه في كل شيء. كان قاسيًا، متعطشًا للدماء، يتلذذ بصيد ضحاياه. كان يختبئ طويلاً في أعماق عقل عمر، يراقب، ينتظر اللحظة المناسبة ليخرج ويسيطر. وعندما يحين الوقت، كان عمر يتلاشى، تاركًا الساحة لمحمد، ليتحول من شاب طيب إلى وحش قاتل لا يرحم.
كان عمر يشعر بالضياع في لحظات كثيرة. لم يكن يفهم سبب هذه الفجوات الزمنية التي يفقد فيها السيطرة، ولم يكن يدرك أن هناك شخصًا آخر يعيش داخله. كانت الكوابيس تلاحقه، يرى وجوهًا شاحبة، عيونًا مذعورة، ودماء تلطخ يديه. لكنه كان يقنع نفسه أن هذه مجرد أحلام، حتى بدأت الحقيقة تظهر شيئًا فشيئًا.
بدأت أولى جرائمه في إحدى أمسيات الشتاء. كانت الضحية فتاة تُدعى سارة، تعمل في مكتبة صغيرة وسط المدينة. كان عمر يتردد على المكتبة كثيرًا، يتحدث معها، يُظهر لها لطفه واهتمامه، حتى أصبحت تثق به. كان يزورها يوميًا تقريبًا، يناقش معها الكتب، ويستمع إلى آرائها، كان يبدو كشخص طبيعي تمامًا، بل كشخص يمكن الاعتماد عليه. وفي الليلة المشؤومة، دعته إلى المقهى القريب لمناقشة كتاب أعجبها. دخل المقهى بعينين بريئتين، لكن محمد كان يتحفز داخله، يبتسم ابتسامة باردة لا يراها سواه.
بعد لحظات من الدردشة، عرض عليها أن يوصلها إلى منزلها، وعندما وافقت، قادها إلى طريق معزول بعيدًا عن الأضواء. هناك، استيقظ محمد بالكامل، وانقض عليها، خنقها بيديه حتى فقدت آخر أنفاسها، ثم ترك جثتها مرمية على قارعة الطريق، كأنها لم تكن أكثر من ورقة سقطت من شجرة في خريف قاسٍ.
لكن محمد لم يكتفِ بجريمته الأولى، بل شعر بنشوة غريبة، إحساس بالقوة، وكأن قتله لسارة لم يكن سوى بداية رحلة طويلة. في صباح اليوم التالي، استيقظ عمر في غرفته، يداه ترتجفان، وملابسه ملوثة ببقع خفيفة من الدم. لم يكن يذكر شيئًا بوضوح، لكن الخوف كان يسري في جسده مثل سم قاتل. في داخله، كان محمد يضحك، يستمتع برؤية معاناة عمر، يهمس له بأشياء غامضة، يطمئنه بأنه لا بأس، وأن كل شيء سيكون على ما يرام.
وبعد أيام، ظهرت أخبار الجريمة في الصحف، عنوانها الرئيسي كان: "العثور على جثة فتاة مقتولة بطريقة وحشية في أحد الأزقة المهجورة". شعر عمر بأن العالم يدور حوله، أنفاسه كانت تتسارع، والعرق يتصبب من جبينه. هل يعقل أنه هو القاتل؟ هل يعقل أن يده هي التي امتدت وخنقت؟ لكنه لا يذكر أي شيء! حاول أن يتجاهل الأمر، أن يقنع نفسه بأنها مجرد مصادفة. لكنه كان يعلم في أعماقه أن شيئًا ما ليس على ما يرام.
استمرت الجرائم، واحدة تلو الأخرى، بنفس الأسلوب. كان عمر ينجذب إلى الفتيات، يتقرب منهن بلطفه ووداعته، ثم ما إن يدخلن دائرته حتى يستيقظ محمد، يتحول إلى ذئب متوحش. مريم، الطالبة الجامعية، تعرف عليها في إحدى المحاضرات، تحدث معها عن أحلامها، عن شغفها بالحياة، ثم في إحدى الليالي، دعاها إلى لقاء خاص في مكان هادئ، حيث خنقها بوشاحها وسحب جسدها إلى المياه الجارية.
أما هند، فقد كانت تعمل في صيدلية، وكانت تراه زبونًا مهذبًا يأتي ليشتري دواءً لوالدته، حتى وثقت به بما يكفي للخروج معه في إحدى الأمسيات. لكنه لم يأخذها إلى مقهى، بل إلى شقة قديمة مهجورة، حيث أغلق الباب خلفه واستمتع بصرخاتها الخافتة وهي تختنق بيديه.
كان محمد يزداد قوة مع كل جريمة، وعمر يزداد ضعفًا. بدأت الفجوات الزمنية تكبر، بدأ يشعر أنه يفقد السيطرة على حياته، لكنه لم يكن يستطيع فعل شيء. كان هناك دائمًا ذلك الصوت في داخله، يطمئنه، يخبره بأن كل شيء على ما يرام، وأن ما يحدث ليس خطأه.
لكن الخطأ القاتل وقع في الليلة العاشرة. كان عمر قد استدرج فتاة تُدعى نور، فتاة بريئة ذات أحلام كبيرة، وعندما همّ محمد بالقضاء عليها، كانت هناك عيون تراقبه. أحد الجيران، الذي كان يشك فيه منذ فترة، لاحظ تحركاته وأبلغ الشرطة. لم يكن الأمر يستغرق وقتًا طويلاً قبل أن يجد رجال الأمن أنفسهم أمام منزل عمر، يطرقون بابه بعنف.
في الداخل، كان عمر جالسًا، يحدّق في المرآة، يرى محمد يبتسم له بسخرية. "لقد انتهى الأمر، أليس كذلك؟" سأل عمر بصوت خافت. رد محمد، مبتسمًا: "ليس بعد."
لكن هذه المرة، لم يسمح له عمر بالعودة. وقف أمام المرآة، قبض بيديه على رأسه، وصرخ، صرخ بصوت قوي لدرجة أن محمد بدأ يتلاشى. وفي اللحظة التي اقتحمت فيها الشرطة المنزل، كان عمر قد انهار، جالسًا على الأرض، مغطى بالدماء، لكنه هذه المرة لم يكن دم ضحية جديدة، بل دمه هو.
تم القبض عليه، وخلال التحقيق، لم يكن لديه ما يقوله سوى عبارة واحدة: "كان هناك شخص آخر داخلي... لم أكن أنا." لكن بالنسبة للقانون، لم يكن هناك سوى عمر، ولم يكن هناك محمد.
حُكم عليه بالسجن المؤبد في مستشفى للأمراض النفسية، حيث بقي هناك، يتحدث إلى نفسه في زنزانة باردة، يتساءل إن كان محمد قد انتهى حقًا، أم أنه لا يزال هناك، ينتظر الفرصة ليعود من جديد.
تعليقات
إرسال تعليق