مقعد القطار رقم 9
لم يكن يوم الثلاثاء يحمل أي مفاجآت بالنسبة لـ"سليم"، شاب ثلاثيني يعمل كمصمم جرافيك حر، يقيم في عمّان، ويقضي يومه بين شاشته المضيئة وفناجين القهوة المتناثرة على الطاولة. ومع الوقت، تحولت رحلته الأسبوعية إلى إربد بالقطار، كل ثلاثاء، إلى عادة مملة لكنه مضطر لها، فهناك مشروع تصوير خاص يتابعه لأحد المعارض الفنية. كان يركب القطار نفسه، في التوقيت نفسه، ويجلس دوماً في مقعده المفضل: رقم 9، بجانب النافذة، حيث يستطيع أن يغرق في عالمه الخاص ويهرب من صخب الواقع.
في أحد تلك الصباحات الرمادية، وبينما كان يخطو خطواته المألوفة نحو المقعد، لاحظ شيئًا غريبًا. فتاة شابة تجلس في مقعده، أو على الأقل المقعد الذي أصبح يعتبره ملكًا شخصيًا له. كانت ترتدي معطفًا رماديًا واسعًا، وشعرها مرفوع بخفة، وعيناها مثبتتان على رواية مفتوحة بعنوان "وتلك الأيام". جلس بجانبها بصمت بعد أن تحقق من رقم تذكرته مرتين، ثم همس لها بلطف:
"أعتقد إنك قاعدة بمكاني…"
رفعت الفتاة عينيها إليه، وبابتسامة هادئة ردت:
"آه؟ أوه، آسفة، بس أنا همّ تذكرتي 9B. أنت 9A، على الجهة الثانية."
ضحك سليم بهدوء. لم ينتبه يومًا أن للمقعد رقمين.
جلس بمحاذاتها، لأول مرة لا بجانب النافذة. شعر كأن الكون قرر أن يحرّك ترتيب حياته الرمادي قليلاً. لم يقرأ، لم يرد على الرسائل، لم يسمع موسيقاه المعتادة. فقط جلس، يشعر بوجودها، ويسترق النظر إلى الصفحة التي تقرأها، والكلمات التي تتسلل من بين أصابعها كأنها تعزف شيئًا.
مرّ الوقت ببطء غريب. عند الوصول، نظرت إليه وسألته:
"تداوم دائمًا بنفس القطار؟"
أجابها: "أسبوعيًا، بس أول مرة ألاحظ شخص يقرأ رواية عربية هون."
ابتسمت وقالت: "أنا روان… وأنت؟"
"سليم."
صافحها، ثم رحلت، تاركةً خلفها عطرًا برائحة قهوة وفانيلا، وأثرًا لا يُفسر.
---
في الأسبوع التالي، عاد سليم إلى القطار. ولأول مرة في حياته، وصل مبكرًا عن العادة، كأنه يريد أن يضمن مقعده بجانبها. وفعلاً، وجدها هناك، تنظر من النافذة، وكتاب جديد في يدها: "سقف الكفاية".
جلس قربها دون تردد هذه المرة، وأدار حديثًا خفيفًا عن الرواية، وتحوّل الحديث إلى الأدب، ثم إلى الحياة، ثم إلى الضحك.
كانت روان مختلفة. لم تكن تثرثر بلا معنى، بل كانت تختار كلماتها كما يختار شاعر مفرداته. وبدأت رحلة من الصداقة الغامضة، كل ثلاثاء، يلتقيان في القطار، في نفس المقعد، ويقتسمان ساعة كاملة من الحياة التي تبدو بسيطة من الخارج، لكنها كانت تحمل في طيّاتها شيئًا أكبر من مجرد تعارف عابر.
---
في أحد الأيام، أحضرت معها علبة شوكولاتة صغيرة:
"جرب هاي، طعمها يشبه طفولتي."
ضحك: "ذوق الطفولة بطعم الكاكاو؟"
كان يضحك، وهي تضحك، وبين ضحكة وضحكة كان هناك صمت، يحمل كل ما لم يقال.
---
بعد أشهر من هذا الروتين العجيب، قرر سليم أن يكسر النمط. أحضر معها وردة بنفسجية، ووضعها أمامها بصمت وهو يبتسم. نظرت إلى الوردة، ثم إليه، وقالت:
"تعرف… كنت أستنى منك هيچ حركة من أول شهر."
ضحك خجلاً، وقال:
"كنت خايف أكسر الحُلم. مرات الخيال أجمل من الواقع."
ردّت: "بس مرات الواقع ينتظر واحد يتحرك حتى يصير أجمل."
---
تطورت العلاقة. صار اللقاء كل ثلاثاء ليس مجرد رحلة قطار، بل موعدًا يتنفس فيه كل منهما الحياة. تبادلوا الكتب، الذكريات، الأسرار الصغيرة. ومع الوقت، سألها سليم:
"ليش تركبين القطار كل ثلاثاء؟ شغلك بإربد؟"
أجابت بعد تردد:
"لا… أنا أزور أختي. بالمشفى."
صمت هو، وشعر بثقل لم يتوقعه.
"خير؟"
"سرطان بالدم. مزمن. لكن نستغل كل دقيقة نضحك فيها."
---
ومن يومها، صار يرافقها إلى المشفى. يجلس معها، ينتظرها، يعود معها. علاقتهما خرجت من جدران القطار، وتحولت إلى واقع يعيشان فيه معًا. أحيانًا يكتب لها شعراً، وهي تهديه رسومات صغيرة.
لكن الزمن لم يكن رحيماً.
في أحد الأيام، لم تحضر روان.
ولا في الذي بعده.
سأل عنها موظف القطار، فسلمه ظرفًا:
"طلبت أوصلك هذا إذا سألت عنها."
فتح الظرف بخوف، ووجد داخله ورقة بخطّ يدها:
> "سليم،
كنت أعلم أن النهاية قريبة، لكني لم أرد أن ألوثها بالخوف.
أنت أجمل مصادفة عرفتها في قطار الحياة.
المقعد رقم 9 لن يكون كما كان، بس أتمنى تظل تركبه… حتى بعدي.
روان."
---
عاد سليم في الأسبوع التالي.
ركب القطار، وجلس في المقعد رقم 9، بجانب النافذة.
لكن هذه المرة، لم يكن يبحث عن فتاة تحمل كتابًا.
كان يبحث عن جزء من روحه التي كانت تجلس هناك.
وفي يده، كان يحمل رواية اسمها "وتلك الأيام"
بدأ يقرأها… من حيث توقفت روان.
تعليقات
إرسال تعليق