مقعد القطار رقم 9

صورة
لم يكن يوم الثلاثاء يحمل أي مفاجآت بالنسبة لـ"سليم"، شاب ثلاثيني يعمل كمصمم جرافيك حر، يقيم في عمّان، ويقضي يومه بين شاشته المضيئة وفناجين القهوة المتناثرة على الطاولة. ومع الوقت، تحولت رحلته الأسبوعية إلى إربد بالقطار، كل ثلاثاء، إلى عادة مملة لكنه مضطر لها، فهناك مشروع تصوير خاص يتابعه لأحد المعارض الفنية. كان يركب القطار نفسه، في التوقيت نفسه، ويجلس دوماً في مقعده المفضل: رقم 9، بجانب النافذة، حيث يستطيع أن يغرق في عالمه الخاص ويهرب من صخب الواقع. في أحد تلك الصباحات الرمادية، وبينما كان يخطو خطواته المألوفة نحو المقعد، لاحظ شيئًا غريبًا. فتاة شابة تجلس في مقعده، أو على الأقل المقعد الذي أصبح يعتبره ملكًا شخصيًا له. كانت ترتدي معطفًا رماديًا واسعًا، وشعرها مرفوع بخفة، وعيناها مثبتتان على رواية مفتوحة بعنوان "وتلك الأيام". جلس بجانبها بصمت بعد أن تحقق من رقم تذكرته مرتين، ثم همس لها بلطف: "أعتقد إنك قاعدة بمكاني…" رفعت الفتاة عينيها إليه، وبابتسامة هادئة ردت: "آه؟ أوه، آسفة، بس أنا همّ تذكرتي 9B. أنت 9A، على الجهة الثانية." ضحك سليم بهدوء. لم ي...

الوجه الآخر لبغداد

في شتاء بغداد الثقيل، حين يتلبد الهواء برائحة البارود والمطر، جلس العقيد سامر خلف مكتبه المتآكل في مركز الشرطة، متصفحًا ملفات القضايا المتراكمة. كانت الأيام تمضي بثقل، والأمل يُستنزف من الوجوه، لكنه لم يكن من أولئك الذين يتركون خيط الشك يتلاشى في العدم.

القضية التي بين يديه هذه الليلة كانت مختلفة. جثة رجل خمسيني، موظف متقاعد من وزارة الصناعة، عُثر عليها في منزله بحي الكرادة، مقتولًا بطلق ناري واحد في الرأس، بلا أي علامات اقتحام. لكن اللافت في الأمر، أن الرجل ترك خلفه مذكرة بخط يده تقول: "من يعرف الحقيقة... يعرف من قتله".

ابتسم سامر بسخرية خفيفة. كانت هذه العبارة كافية لتوقظ فيه ذلك المحقق الذي مات نصفه منذ سنين، منذ أن فقد زوجته في انفجار استهدف سوقًا شعبيًا. لم يعد يرى في هذه المدينة سوى ألغاز متداخلة، وأرواح تائهة في طرقات فقدت أسماءها.

بدأ التحقيق من محيط الضحية، جيرانه، زملاؤه السابقون، وحتى البقال الذي يمر به يوميًا. الكل وصفه بالهادئ، المنعزل، لكنه دائمًا ما كان يتحدث عن "العدالة الحقيقية". بعد أسبوع من التحقيقات الباردة، ظهرت أول خيوط الضوء.

في حقيبة قديمة عُثر عليها داخل خزانته، وُجدت مستندات تفصيلية عن مشاريع مريبة، وتوقيعات مسؤولين كبار في الحكومة الجديدة بعد 2003. مشاريع بملايين الدولارات تم تحويلها لشركات وهمية. من بين الأسماء، وُجد اسم لجنرال سابق في الجيش، الآن يشغل منصبًا وزاريًا.

سامر لم يتفاجأ. بل شعر أن هذه القضية أوسع من مجرد جريمة قتل. شعر أنها بداية خيط طويل يربط السياسة بالجريمة.

بدأ يتلقى تهديدات، ومراقبة لبيته. زوجته ماتت، لكن ابنته الوحيدة سارة، طالبة في كلية الطب، كانت كل ما تبقى له. بدأ الخوف يتسلل إليه، لكنه لم يتراجع. أصر على الوصول للنهاية.

في إحدى الليالي، جاءته رسالة من مجهول: "إذا أردت أن تفهم، قابلني عند تمثال أبو نواس الساعة ١١ مساءً". ذهب سامر، ومعه مسدسه الصغير. عند التمثال، وجد رجلًا مسنًا، يضع نظارة سوداء رغم الظلام، قال له:

"أنا كنت زميله، في زمن ما. كنا نعمل في لجنة مكافحة الفساد. هو لم يقتل نفسه. هو كان الشاهد الأخير، وكان يملك ملفات تدين نصف الحكومة. كانوا يعرفون أنه سيتكلم، فقتلوه وجعلوا الأمر يبدو كأنه انتحار".

ثم اختفى الرجل في الظلام، تاركًا خلفه ظرفًا فيه مفتاح فلاش. سامر عاد إلى بيته، أغلق الأبواب، وفتح الفلاش. ما وجده كان أكثر مما توقع: مقاطع فيديو لاجتماعات مغلقة، تسجيلات لمكالمات، وثائق مختومة بختم "سري للغاية".

كان أمامه خياران: أن يسلم هذه الأدلة ويخاطر بحياته وحياة ابنته، أو يحتفظ بها ويعيش كأن شيئًا لم يكن. لكنه لم يكن من هذا النوع.

في صباح اليوم التالي، سلّم الأدلة إلى صحفي استقصائي معروف، وطلب منه النشر فورًا. خلال أيام، انتشرت الوثائق في وسائل الإعلام. خرجت المظاهرات في الشوارع، وبدأت حملات اعتقال تطال شخصيات نافذة.

أما سامر، فاختفى. لم يُعرف له أثر. البعض يقول إنه هرب إلى خارج البلاد، آخرون يعتقدون أن الحكومة قتلته. لكن ابنته سارة، كانت دائمًا تقول:

"أبي لم يمت، هو فقط انتقل إلى جانب آخر من بغداد... حيث لا صوت يعلو على صوت الحق".



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

"ظلال أركانتا: سر الأومبرا".

الغابة المسكونة