مقعد القطار رقم 9

عمر، شاب عراقي في منتصف العشرينات، يعيش في مينابوليس، الولايات المتحدة منذ سنوات. رغم الاستقرار الذي وجده هناك، كان يشعر دائمًا بأن هناك شيئًا ناقصًا في حياته. لم يكن الأمر مجرد حنين للوطن، بل كان شعورًا داخليًا بأنه لم يجد بعد المكان الذي ينتمي إليه حقًا. كان يتابع أخبار العالم العربي بشغف، وخصوصًا أوضاع غزة، تلك المدينة التي لم يكن قد زارها من قبل، لكنها لطالما جذبت قلبه بقصصها عن المقاومة والصمود.
في أحد الأيام، وبينما كان يتصفح منصات التواصل الاجتماعي، رأى إعلانًا من منظمة إنسانية تبحث عن متطوعين لمساعدة الفرق الطبية في غزة. لم يفكر مرتين، وكأن شيئًا بداخله كان يناديه للذهاب. أنهى كل أعماله، وقدم طلب التطوع، وحزم حقيبته، ليبدأ رحلة محفوفة بالمخاطر نحو مدينة لم يكن يعلم أن قلبه سيتعلق بها إلى الأبد.
عبر مصر ومعبر رفح، وجد نفسه أخيرًا وسط غزة. لم يكن الأمر كما تخيله، فكل شيء هناك كان يحمل مزيجًا من الألم والأمل، من الدمار والصمود. وبين أصوات القصف، والوجوه التي تحمل آثار التعب، كانت هناك روح لا تموت. في أحد المستشفيات الميدانية، التقى بها لأول مرة… خلود.
خلود، فتاة فلسطينية في الثالثة والعشرين من عمرها، تعمل كممرضة متطوعة. كانت عيناها تشعان بالقوة رغم كل ما مرت به. لم يكن جمالها في ملامحها فقط، بل في الطريقة التي كانت تعتني بها بالمرضى، في الابتسامة التي تمنحها لمن يحتاجها، وفي العزيمة التي تملأ صوتها وهي تواسي طفلاً فقد عائلته. منذ اللحظة الأولى، شعر عمر بشيء مختلف، وكأن هذه الفتاة تمتلك مفتاحًا لأبواب قلبه المغلقة منذ زمن.
بدأ عمله معها في المستشفى، يساعد في نقل المصابين، يجلب الأدوية، ويمد يد العون بأي طريقة ممكنة. مع كل يوم يمر، كان يقترب منها أكثر، ليس فقط كزميلة في العمل، بل كروح تكمل روحه. لم يكن بينهما حديث كثير في البداية، لكنها كانت تلاحظ اهتمامه، وكانت ترى في عينيه أسئلة لم يطرحها بعد.
في إحدى الليالي، وبعد يوم طويل من العمل الشاق، جلسا سويًا على سطح المستشفى، ينظران إلى السماء الممتلئة بالدخان والنجوم في آن واحد. قال لها بصوت خافت:
"ما توقعت ألاقي هالكمية من القوة بعيون الناس هنا، رغم كل شي صاير حواليهم."
ابتسمت خلود بحزن وقالت:
"القوة هي الشي الوحيد اللي عندنا، لو فقدناها، انتهينا."
منذ تلك الليلة، أصبحا أكثر قربًا. أخبرها عن حياته في العراق، عن رحلته الطويلة إلى أمريكا، وعن الفراغ الذي كان يشعر به هناك. أخبرته هي عن طفولتها في غزة، عن الأيام التي كانت تهرع فيها إلى الملاجئ، وعن الأحلام التي دفنتها تحت أنقاض بيتها الذي دمر في الحرب الأخيرة.
كانا مختلفين في كل شيء، لكنه شعر وكأنها الشخص الوحيد الذي يفهمه حقًا. لم يكن الحب بينهما سريعًا، بل نما مع الوقت، مع المواقف، مع الأيام التي قضياها في محاولة إنقاذ الأرواح، ومع الخطر الذي جعلهما يدركان أن الحياة أقصر من أن تُعاش بدون حب حقيقي.
في أحد الأيام، وبعد غارة جوية عنيفة أصابت المنطقة القريبة من المستشفى، وجدها تجلس في زاوية الغرفة، تبكي بصمت. اقترب منها، جلس بجانبها، أمسك يدها وقال:
"إنتِ مو وحدج، وأبد ما رح تكونين وحدج."
نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالدموع، وكأنها كانت تنتظر هذه الكلمات منذ زمن. في تلك اللحظة، أدرك كلاهما أن الحب الذي جمعهما لم يكن مجرد مشاعر عابرة، بل كان وعدًا، كان مقاومة أخرى وسط كل هذا الخراب.
لكن الحب في غزة لم يكن سهلاً. لم يكن هناك مجال للأحلام البسيطة، ولا للوعود الوردية. كل يوم كان قد يكون الأخير، وكل لحظة كانت هدية يجب تقديرها. ورغم كل شيء، قرر عمر أنه لن يتركها. لن يعود إلى أمريكا ويترك قلبه هنا، بين الأنقاض وبين يديها.
عرض عليها الزواج، لم يكن الأمر تقليديًا، لم يكن هناك فستان أبيض أو قاعة فاخرة، بل مجرد كلمات صادقة في وقت كان فيه الحب أعظم أشكال المقاومة. وافقت خلود دون تردد، وكأنها وجدت أخيرًا من تستطيع أن تحلم معه رغم الواقع القاسي الذي يعيشان فيه.
في اليوم الذي كان من المفترض أن يحتفلوا فيه بزواجهما البسيط، شنت إسرائيل أعنف غارة على المدينة منذ أشهر. كان عمر في الخارج يساعد في نقل الجرحى عندما سمع صوت القصف يضرب المنطقة التي كان فيها المستشفى. هرع إلى هناك، قلبه ينبض بجنون، يبحث عنها بين الركام، يصيح باسمها، حتى وجدها أخيرًا…
كانت مغطاة بالغبار، جرح على جبينها، لكنها كانت على قيد الحياة. عندما رأته، ابتسمت رغم الألم، وقالت بصوت ضعيف:
"وعدتني إنك ما تخليني، صح؟"
احتضنها بقوة، وعرف في تلك اللحظة أن الحب ليس فقط كلمات أو لحظات جميلة، بل هو أن تقاتل من أجل من تحب، حتى في أكثر الأماكن ظلمة، حتى في غزة، حتى تحت القصف.
ورغم كل شيء، استمروا في الكفاح معًا، كان زواجهما شاهدًا على أن الحب يمكن أن يولد حتى وسط الحرب، وأن الأمل لا يموت، طالما هناك من يؤمن به.
تعليقات
إرسال تعليق