مقعد القطار رقم 9

صورة
لم يكن يوم الثلاثاء يحمل أي مفاجآت بالنسبة لـ"سليم"، شاب ثلاثيني يعمل كمصمم جرافيك حر، يقيم في عمّان، ويقضي يومه بين شاشته المضيئة وفناجين القهوة المتناثرة على الطاولة. ومع الوقت، تحولت رحلته الأسبوعية إلى إربد بالقطار، كل ثلاثاء، إلى عادة مملة لكنه مضطر لها، فهناك مشروع تصوير خاص يتابعه لأحد المعارض الفنية. كان يركب القطار نفسه، في التوقيت نفسه، ويجلس دوماً في مقعده المفضل: رقم 9، بجانب النافذة، حيث يستطيع أن يغرق في عالمه الخاص ويهرب من صخب الواقع. في أحد تلك الصباحات الرمادية، وبينما كان يخطو خطواته المألوفة نحو المقعد، لاحظ شيئًا غريبًا. فتاة شابة تجلس في مقعده، أو على الأقل المقعد الذي أصبح يعتبره ملكًا شخصيًا له. كانت ترتدي معطفًا رماديًا واسعًا، وشعرها مرفوع بخفة، وعيناها مثبتتان على رواية مفتوحة بعنوان "وتلك الأيام". جلس بجانبها بصمت بعد أن تحقق من رقم تذكرته مرتين، ثم همس لها بلطف: "أعتقد إنك قاعدة بمكاني…" رفعت الفتاة عينيها إليه، وبابتسامة هادئة ردت: "آه؟ أوه، آسفة، بس أنا همّ تذكرتي 9B. أنت 9A، على الجهة الثانية." ضحك سليم بهدوء. لم ي...

لعنة العاشقة

كانت شوارع بغداد القديمة تمتد كحكايةٍ نُسجت بخيوط التاريخ، مليئة بالقصص التي يتناقلها الناس عن الأرواح والجن، عن الأماكن المسكونة وعن الأقدار التي لا ترحم من يتحدى الغيب. في حيٍّ قديمٍ متداخل الأزقة، بين البيوت المتلاصقة، كان هناك منزلٌ تركه الزمن خلفه، منزلاً قديماً من حقب بعيدة، يحمل في جدرانه أسراراً لم تُكشف بعد. هذا المنزل أصبح ملكاً لـعمر، شاب في السابعة والعشرين من عمره، يعيش وحيدًا بلا مسؤولية، منغمسًا في حياةٍ صاخبة لا تعرف معنى الالتزام أو الدين.


لم يكن يؤمن بعالم الجن أو الماورائيات، بل كان يسخر من كل من يتحدث عنها. بالنسبة له، كانت مجرد أساطير تُروى لإخافة الأطفال. ولأنه شخصٌ لا يبالي بأي شيء، قرر السكن في منزل جده رغم تحذيرات الجيران. قيل إن المنزل شهد أحداثاً غريبة في الماضي، وإن سكانه السابقين عانوا من كوابيس وأصوات غامضة. لكنه لم يكن يهتم، بل اعتبرها مجرد قصص مبالغ فيها.


مع انتقاله إلى المنزل، بدأت الأمور تتغير. في الليالي الأولى، كان يشعر وكأن هناك من يراقبه، كأنّ العتمة في الزوايا تحمل أعينًا غير مرئية. الأصوات الخفيفة التي لم تكن صادرة عن أي شيء واضح، الأبواب التي تُفتح وتُغلق وحدها، والبرد الغريب الذي يسري في أرجاء المكان حتى في أشد أيام الصيف حرارة. لكنه تجاهل كل ذلك، بل ازداد تهورًا، يقضي لياليه في اللهو، يدعو أصدقاءه للمنزل، يحتفل بصخب غير آبهٍ بشيء.


وذات ليلة، بعد سهرة صاخبة امتلأت بالموسيقى والخمر، جلس وحيدًا في غرفة المعيشة، رأسه مثقلٌ بالشراب، يشعر بالتعب لكن النوم يأبى أن يأتي. كان الجو في المنزل غريبًا، مختلفًا عن أي ليلةٍ أخرى. شعر وكأن هناك من يشاركه الغرفة، لكنه لم يستدر، بل اكتفى بإغماض عينيه للحظة، محاولًا تناسي إحساسه بالقلق.


لكنه سمع همسًا.


صوتٌ ناعمٌ، أنثويّ، لكنه ليس بشريًا، صوتٌ يمرّ عبر الهواء كأنه يتغلغل في رأسه مباشرة:


"عمر..."


فتح عينيه بسرعة، تفحص المكان، لكن لم يكن هناك أحد. ضرب رأسه بكفه، معتقدًا أن الخمر جعلته يتخيل أشياء، لكنه سمع الصوت مجددًا، أقرب هذه المرة، كأنه يهمس في أذنه مباشرة.


"أنا هنا..."


انتفض واقفًا، نظر حوله بجنون، لكنه لم ير شيئًا سوى الظلام الذي يملأ زوايا المنزل. شعر بقشعريرةٍ تتسلل إلى عموده الفقري، لكنه رفض الاستسلام للخوف.


"إذا كان هناك أحد هنا، فليظهر الآن!" صرخ متحديًا.


وهنا...


تحركت الستائر رغم أن النوافذ كانت مغلقة، تلاشت الإضاءة للحظة وكأن المنزل كله غرق في فراغ أسود، ثم ظهرت أمامه...


امرأة.


لم تكن بشرية، بل كانت كيانًا بين النور والظلام، ذات عيون سوداء لامعة كليلٍ لا نهاية له، بشرتها شاحبة حدّ الموت، شعرها يتطاير بلا نسيم، ترتدي فستانًا أسود طويل كأنها ظلٌ مُجسد. كانت تنظر إليه بابتسامةٍ لم تكن لطيفة، بل تحمل في طياتها شيئًا مخيفًا، شيئًا جعله يشعر بأنه فريسة وقعت في يد صيادٍ ماهر.


"من أنتِ؟" سأل بصوتٍ مهتز رغم محاولته إخفاء ارتباكه.


"أنا لك..." همست، واقتربت خطوة.


تحرك إلى الخلف لا إراديًا، لكن قدميه تجمدتا في مكانهما، كأن الأرض التهمتهما. أراد الهروب، أراد الصراخ، لكنه لم يستطع. كل شيء في جسده تجمد تحت تأثير عينيها.


"لطالما كنتُ أراقبك..." تابعت بصوتٍ منخفض، يشبه الأغنية الملعونة. "لطالما كنتُ قريبة، في كل ليلةٍ كنتُ هناك، في الزوايا، في الظل، في أحلامك... وأنا الآن هنا، لأجلك."


بدأت ذاكرته تستعيد لحظاتٍ لم ينتبه لها من قبل. الأحلام الغريبة التي كان يراها في الأشهر الأخيرة، الأحاسيس الغريبة التي شعر بها دون تفسير، الظلال التي لم يكن لها مصدر واضح...


لقد كانت هناك طوال الوقت.


"أنا لن أؤذيك... بعد." ابتسمت، ثم اختفت فجأة، كأنها لم تكن أبدًا.


عمر سقط على ركبتيه، أنفاسه متقطعة، جسده كله يرتجف. لم يكن هذا وهمًا، لم تكن مجرد خرافة. شيءٌ ما يسكن هذا المكان، شيءٌ اختاره هو، ولم يعد بإمكانه الهروب.


لكن الأمر لم ينتهِ هنا.


منذ تلك الليلة، بدأ عمر يرى الكيان في كل مكان. تظهر له في المرآة، تقف خلفه في الزوايا، تجلس عند حافة سريره في الليل. وفي كل مرة، كانت تكرر نفس الكلمات:


"أنا لك، وسأبقى لك."


حياته انقلبت إلى كابوسٍ لا نهاية له. لم يعد يستطيع النوم، لم يعد يستطيع التفكير، حتى جسده بدأ يضعف وكأن شيئًا يسحب منه طاقته ببطء. حاول أن يهرب، أن يخرج من المنزل، لكن في كل مرةٍ كان يجد نفسه يعود إليه رغماً عنه، كأن هناك قوة خفية تمنعه من المغادرة.


بحث عن حل، سأل أناسًا عن قصص الجن، لكن أحدًا لم يصدقه. حتى أصدقاؤه ابتعدوا عنه بعد أن لاحظوا تغيره. لم يكن هناك من يلجأ إليه... إلا الله.


للمرة الأولى منذ سنوات، شعر بالخوف الحقيقي، شعور العجز أمام شيءٍ لا يستطيع مواجهته، لم يكن هناك سلاحٌ يمكنه استخدامه، لم يكن هناك من يستطيع إنقاذه.


وفي لحظة ضعفٍ، سجد على الأرض، وبدأ يهمس بأول آية قرآنية يتذكرها.


وبمجرد أن نطق أولى الكلمات، سمع صرخة... ليست صرخته، بل صرختها، صرخةً ملأت المكان كله، صوتٌ يحمل في داخله غضبًا لا يوصف. شعر بالألم في جسده، وكأن شيئًا ينتزع منه، لكنه استمر.


استمر بالدعاء، استمر بذكر الله، استمر حتى حلّ الصباح، وعندما فتح عينيه... كان كل شيء قد اختفى.


المنزل عاد إلى هدوئه، الظلال لم تعد تطارده، والهمسات لم تعد تملأ رأسه.


لقد نجا.


أدرك حينها أن ما أصابه لم يكن مجرد حادثة، بل كان درسًا، درسًا بأن الإيمان ليس مجرد كلمات، بل هو حصنٌ يحمي الإنسان مما لا يراه. أدرك أن الحياة التي عاشها بلا مسؤولية، بلا إيمان، كانت الباب الذي سمح لتلك اللعنة بالدخول.


ومنذ ذلك اليوم، لم يعد كما كان. لم يعد يهمل صلاته، لم يعد يتهاون في إيمانه. لكنه كان يعلم...


أنها ما زالت تراقبه من بعيد.


وأن اللعنة قد لا تنتهي تمامًا... بل قد تعود إذا عاد هو إلى سابق عهده.

النهاية





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

*قصة عمر: رحلة من بغداد إلى أمريكا*

في غرفة الموسيقى