مقعد القطار رقم 9

صورة
لم يكن يوم الثلاثاء يحمل أي مفاجآت بالنسبة لـ"سليم"، شاب ثلاثيني يعمل كمصمم جرافيك حر، يقيم في عمّان، ويقضي يومه بين شاشته المضيئة وفناجين القهوة المتناثرة على الطاولة. ومع الوقت، تحولت رحلته الأسبوعية إلى إربد بالقطار، كل ثلاثاء، إلى عادة مملة لكنه مضطر لها، فهناك مشروع تصوير خاص يتابعه لأحد المعارض الفنية. كان يركب القطار نفسه، في التوقيت نفسه، ويجلس دوماً في مقعده المفضل: رقم 9، بجانب النافذة، حيث يستطيع أن يغرق في عالمه الخاص ويهرب من صخب الواقع. في أحد تلك الصباحات الرمادية، وبينما كان يخطو خطواته المألوفة نحو المقعد، لاحظ شيئًا غريبًا. فتاة شابة تجلس في مقعده، أو على الأقل المقعد الذي أصبح يعتبره ملكًا شخصيًا له. كانت ترتدي معطفًا رماديًا واسعًا، وشعرها مرفوع بخفة، وعيناها مثبتتان على رواية مفتوحة بعنوان "وتلك الأيام". جلس بجانبها بصمت بعد أن تحقق من رقم تذكرته مرتين، ثم همس لها بلطف: "أعتقد إنك قاعدة بمكاني…" رفعت الفتاة عينيها إليه، وبابتسامة هادئة ردت: "آه؟ أوه، آسفة، بس أنا همّ تذكرتي 9B. أنت 9A، على الجهة الثانية." ضحك سليم بهدوء. لم ي...

رائحة الحبر القديم

 كان "عادل" شابًا في الثلاثينات من عمره، يعمل موظفًا بسيطًا في مكتبة صغيرة على أطراف المدينة. كان يعشق الكتب إلى حد الجنون، ويجد فيها عزاءً من عالم بدا دائمًا كأنه يضيق عليه. كانت المكتبة مليئة بالكتب القديمة ذات الأغلفة الجلدية البالية، ورائحة الحبر والورق الأصفر كانت تملأ المكان، مما أضفى على المكتبة جوًا من السحر والحنين.


لكن ما كان يميز المكتبة هو غرفة صغيرة في الطابق العلوي، مغلقة دائمًا بقفل صدئ. كان صاحب المكتبة، العم "مصطفى"، يرفض بشدة الحديث عنها، مما أثار فضول عادل لسنوات. في إحدى الأمسيات، عندما كان العم مصطفى يغلق المكتبة، قال له: "عادل، سأرحل عن هذه المدينة قريبًا، وأريد أن تسامحني على شيء لم أفصح عنه طوال هذه السنين."


تردد عادل للحظة قبل أن يسأله: "ما الأمر يا عم مصطفى؟"


تنهد مصطفى وقال: "الغرفة المغلقة في الطابق العلوي تحمل سرًا، سرًا ثقيلًا. إنها تحتوي على كتب لم أرغب يومًا في أن يراها أحد... لأنها تروي قصصًا حقيقية عن حياتنا، وكأنها تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا."


ظن عادل أن الرجل بدأ يهذي بسبب تقدمه في العمر، لكنه لم يستطع مقاومة فضوله. بعد مغادرة مصطفى في تلك الليلة، قرر عادل تسلق السلم الخشبي القديم والتسلل إلى الغرفة.


اكتشاف الغرفة


عندما فتح الباب بصعوبة، انبعثت رائحة غريبة مزيج من الحبر العتيق والخشب الرطب. الغرفة كانت مليئة بالرفوف التي تحمل كتبًا ذات أغلفة غير مألوفة، مزخرفة برسومات غريبة ونقوش قديمة. التقط عادل أحد الكتب وفتحه بحذر. الصفحة الأولى كانت خالية، لكنه ما إن قلب الصفحة الثانية حتى بدأت كلمات الكتاب تتشكل أمام عينيه كأنها تُكتب في تلك اللحظة.


"عادل، ابن الرابعة والثلاثين، يعيش في مدينة تخنقه جدرانها. يشعر بالوحدة في زحام الناس، ويبحث عن معنى لوجوده..." قرأ بصوت مرتجف. كان الكتاب يروي قصته بدقة غريبة، بما في ذلك تفاصيل لم يشاركها مع أحد.


مرر أصابعه على الكلمات، لكن الكتاب لم يكن مجرد أداة لقراءة ماضيه؛ بل بدأ يعرض له صورًا من مستقبله. رأى نفسه يقف في حديقة كبيرة مليئة بالزهور، بجانبه امرأة لم يتعرف عليها. كانت تحمل طفلاً صغيرًا، وكانت السعادة تملأ ملامحهما.


الرحلة الغامضة


بدأ عادل يشعر بارتباط غريب بهذه الكتب، وكأنه وجد بوابة لفهم حياته بشكل أعمق. لكنه سرعان ما أدرك أن كل كتاب في الغرفة يروي قصة شخص آخر في المدينة. قصص الحب، الخيانة، الطموح، وحتى المآسي التي لم تقع بعد.


عندما بدأ يقرأ كتابًا آخر، وجد نفسه في مواجهة قصة "سارة"، الفتاة التي كانت تعمل في المقهى المجاور للمكتبة. كانت قصتها مليئة بالألم، إذ تحدث الكتاب عن فقدانها لوالدتها، وكيف كانت تكافح لتربية أختها الصغيرة. شعر بالذنب لأنه كان يرى سارة يوميًا دون أن يدرك حجم معاناتها.


قرر أن يفعل شيئًا. في اليوم التالي، زار المقهى وطلب فنجانًا من القهوة. لاحظ التعب في عينيها وسألها برفق: "هل كل شيء على ما يرام يا سارة؟" تفاجأت من سؤاله لكنها ابتسمت وقالت: "أنا بخير... شكراً لسؤالك."


مع مرور الأيام، أصبح عادل وسارة صديقين مقربين، وبدأ يساعدها بطرق صغيرة ولكنها مؤثرة. شعرت سارة بأن هناك من يهتم لأمرها، بينما شعر عادل بأنه بدأ يجد معنى لحياته من خلال مساعدة الآخرين.


الرسائل المخفية


مع الوقت، أصبح عادل مهووسًا بالكتب الموجودة في الغرفة. كان يقرأ قصة بعد أخرى، يحاول التدخل لتغيير مصائر الناس. لكنه لاحظ أن كل مرة يغير فيها مجرى الأحداث، يظهر شيء جديد في كتابه الخاص، وكأن الكتب متصلة بطريقة لا يستطيع فهمها.


ذات يوم، بينما كان يقرأ كتابه، وجد رسالة مكتوبة بخط يد لم يكن يعرفه: "عادل، كل ما تفعله يترك أثرًا، ولكن عليك أن تختار بحذر. هل ستتابع قراءة قصص الآخرين أم ستبدأ بكتابة قصتك؟"


كان السؤال كأنه صاعقة. أدرك أن هوسه بتغيير حياة الآخرين جعله ينسى حياته الخاصة.


النهاية الجديدة


قرر عادل أن يترك الغرفة المغلقة خلفه. أغلق الباب وأعاد المفتاح إلى العم مصطفى. قال له: "شكراً لك لأنك فتحت لي نافذة لأفهم الحياة، ولكن الآن حان الوقت لأعيشها."


بدأ عادل يركز على بناء مستقبله، وفتح مكتبة صغيرة خاصة به، جعلها مكانًا للكتب والنقاشات والقصص. أصبح جزءًا من حياة سارة، التي أصبحت تعمل معه في المكتبة، وبدأ الاثنان معًا كتابة فصول جديدة مليئة بالأمل والحب.


لم يعد عادل يشعر بأنه مجرد قارئ للقصص، بل أصبح كاتبًا لقصته الخاصة، يمسك القلم ويخط به تفاصيل حياته.



النهاية .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

*قصة عمر: رحلة من بغداد إلى أمريكا*

في غرفة الموسيقى