مقعد القطار رقم 9

صورة
لم يكن يوم الثلاثاء يحمل أي مفاجآت بالنسبة لـ"سليم"، شاب ثلاثيني يعمل كمصمم جرافيك حر، يقيم في عمّان، ويقضي يومه بين شاشته المضيئة وفناجين القهوة المتناثرة على الطاولة. ومع الوقت، تحولت رحلته الأسبوعية إلى إربد بالقطار، كل ثلاثاء، إلى عادة مملة لكنه مضطر لها، فهناك مشروع تصوير خاص يتابعه لأحد المعارض الفنية. كان يركب القطار نفسه، في التوقيت نفسه، ويجلس دوماً في مقعده المفضل: رقم 9، بجانب النافذة، حيث يستطيع أن يغرق في عالمه الخاص ويهرب من صخب الواقع. في أحد تلك الصباحات الرمادية، وبينما كان يخطو خطواته المألوفة نحو المقعد، لاحظ شيئًا غريبًا. فتاة شابة تجلس في مقعده، أو على الأقل المقعد الذي أصبح يعتبره ملكًا شخصيًا له. كانت ترتدي معطفًا رماديًا واسعًا، وشعرها مرفوع بخفة، وعيناها مثبتتان على رواية مفتوحة بعنوان "وتلك الأيام". جلس بجانبها بصمت بعد أن تحقق من رقم تذكرته مرتين، ثم همس لها بلطف: "أعتقد إنك قاعدة بمكاني…" رفعت الفتاة عينيها إليه، وبابتسامة هادئة ردت: "آه؟ أوه، آسفة، بس أنا همّ تذكرتي 9B. أنت 9A، على الجهة الثانية." ضحك سليم بهدوء. لم ي...

"ظلال الحب وأسرار القدر: قصة عمر وليلى"

في ليلة باردة من ليالي الخريف، كانت الأضواء الخافتة تنعكس على الأرصفة المبللة بالمطر في المدينة القديمة، تاركةً وميضًا غامضًا يزين الشوارع. عمر، الذي كان يسير وحيدًا بين الزقاق المتعرج، توقف للحظة ليراقب بائع الزهور يغلق دكانه، ربما للمرة الأخيرة تلك الليلة.


فجأة، ومن بين ظلال الليل التي كانت تتمايل مع الريح، ظهرت ليلى. كانت تقف هناك، بشعرها الأسود الطويل الذي كان يلامس الزهور المتبقية، وهي تحدق في باقة من النرجس الأبيض. كان هناك شيء ما في طريقة وقوفها، شيء يبعث على الحزن والجمال معًا، جذب عمر نحوها دون وعي.

بخطوات مترددة، تقدم عمر نحوها. الهواء البارد كان يعزف لحنًا خفيًا يختلط مع أصوات المدينة البعيدة. عندما وصل إلى جانبها، حاول أن يجد الكلمات المناسبة.

"هذه الزهور جميلة، أليس كذلك؟" قالها عمر بصوت خافت، محاولًا كسر الصمت الذي كان يحيط بهما.

ليلى التفتت نحوه ببطء، وعيناها التي كانت تحمل نظرات محملة بالأسرار أوقعته في دهشة. همست بصوت يكاد يغلب عليه الحزن، "نعم، لكنها تذكرني بشيء فقدته منذ زمن."

قبل أن يتمكن عمر من الرد أو حتى التفكير في سؤال آخر، اختفت ليلى في الزحام الذي بدأ يتجمع عند المحطة المجاورة. تركت خلفها باقة النرجس على الأرض، وكأنها رسالة أو دعوة لمتابعة قصة لم تُرو بعد.

وقف عمر هناك، محدقًا في الزهور المتروكة على الرصيف، وقد امتلأ قلبه برغبة جارفة في معرفة المزيد عن هذه المرأة الغامضة التي لم تُعرف إلا للحظات، ولكنها تركت أثرًا لن يمحى بسهولة.
وقف عمر يحدق في النرجس الأبيض المتروك على الرصيف، محاولًا استيعاب ما حدث للتو. كانت ليلى قد غادرت بسرعة، تاركةً خلفها أكثر من مجرد زهور؛ تركت ألغازًا تحتاج إلى حل. قرر عمر ألا يترك هذه اللحظة تمر دون معرفة المزيد عنها، فقد شعر بأن شيئًا ما يجذبه نحوها بقوة لا يمكن تفسيرها.

تقدم عمر وأمسك بالباقة المتروكة على الأرض، وبدأ يتبع الاتجاه الذي ذهبت إليه ليلى. كانت الشوارع تزداد ازدحامًا كلما اقترب من المحطة المركزية. الناس يتحركون بسرعة، كلٌ مشغول بوجهته. حاول التركيز بين الوجوه المتعددة، راجيًا أن يلمح وجه ليلى مرة أخرى.

بينما كان يسير، تذكر عمر النظرة الحزينة في عيون ليلى. "ما الذي كانت تعنيه بكلماتها؟ ما الذي قد فقدته؟" تساءل في قلبه. كانت الأسئلة تتزاحم في ذهنه، وكل خطوة يخطوها تزيد من إصراره على إيجاد إجابات.

أخيرًا، وصل إلى المحطة حيث بدأ الناس يتجمعون للانتظار عند الأرصفة. التفت يمينًا ويسارًا، بحثًا عن أي علامة قد تدل على مكان ليلى. وفجأة، في زاوية من الرصيف، رأى امرأة تقف وحدها، تنظر إلى جدول القطارات المعلق. كان شعرها الطويل ووقفتها المميزة كافية ليتأكد أنها ليلى.

تقدم نحوها بخطى مترددة، ممسكًا بباقة النرجس في يده. عندما اقترب، التفتت ليلى نحوه بنظرة مفاجأة. "لقد... لقد جئت خلفي؟" قالت بصوت يرتجف قليلاً.

أومأ عمر برأسه، "لم أستطع أن أتركك هكذا. هناك شيء في كلماتك... أريد مساعدتك إذا استطعت."

انعكس الشك في عيون ليلى للحظة، ثم تحول إلى شيء يشبه الامتنان. "أشكرك، لكن ربما هذا أكثر مما تستطيع تحمله."

"دعينيأكون القاضي على ذلك. ما الذي تخسرينه في مشاركة قصتك؟" رد عمر بصوت ثابت، وهو يمد لها باقة النرجس.

ليلى تناولت الباقة بيدين مرتجفتين، وبدت كأنها تحارب دموعًا كادت تتساقط. "حسنًا، سأخبرك. لكن ليس هنا. هذا المكان مزدحم جدًا والقصة التي سأرويها تحتاج إلى هدوء."

وافق عمر على الفور، مشيرًا نحو مقهى صغير عبر الشارع. "هل ذلك المكان يناسبك؟"

أومأت ليلى برأسها، واتجها معًا نحو المقهى. الجو داخل المكان كان دافئًا ومريحًا، بعيدًا عن صخب الشارع الخارجي. اختارا طاولة في زاوية هادئة، وبينما كانت ليلى تضع باقة النرجس على الطاولة، طلب عمر فنجانين من القهوة ليساعدا على تخفيف الجو المشحون بالأحاسيس.

بعد دقائق من الصمت، بدأت ليلى تروي قصتها. "اسمي ليلى، وأنا هنا ليس بالصدفة. جئت إلى هذه المدينة بحثًا عن شخص غالٍ عليّ، شخص فقدته منذ سنوات. أخي، الذي اختفى في ظروف غامضة."

تابعت ليلى، والحزن يلوح في صوتها، "قبل خمس سنوات، كان أخي يعمل هنا، في هذه المدينة، وفجأة توقفت أخباره. لم نسمع منه شيئًا بعد ذلك. الشرطة قالت إنه ربما هرب أو أن شيئًا سيئًا حدث له، لكن لا أحد يعرف بالضبط ما الذي حصل."

استرسلت في الحديث، وهي تمسك بالنرجس بيدها، كأنها تستمد منه القوة لتواصل. "هذه الزهور كانت المفضلة لدى أخي. كلما رأيتها، أشعر بأن جزءًا منه معي. جئت الليلة إلى بائع الزهور لأشتري بعضها في ذكرى يوم فقدانه."

عمر استمع بانتباه شديد، وقلبه يتألم لألم ليلى. "هل هناك شيء يمكنني فعله لمساعدتك؟ لا يمكنني تخيل الألم الذي تشعرين به."

ليلى نظرت إليه بامتنان. "أشكرك على استماعك لقصتي. ربما، مجرد وجود شخص للتحدث إ
بعد لحظات من الصمت المشحون بالعواطف، ناول النادل القهوة التي طلبها عمر. أخذ كل منهما فنجانه، واستمرت ليلى في الحديث، وقهوتهما تبث الدفء في أيديهما.

"كنت أزور هذه المدينة كل عام، في نفس اليوم، آملة في العثور على أي دليل يمكن أن يقودني إلى أخي. أبحث في الأماكن التي كان يحبها، أتحدث مع أشخاص قد يكونوا عرفوه. لكن، مع مرور الوقت، بدأت أفقد الأمل."

عمر استمع بتعاطف، وهو يرى الألم العميق المطبوع على وجهها. "لا تفقدي الأمل، ليلى. ربما أستطيع مساعدتك. أعرف الكثير من الناس هنا، وربما يمكنني البحث عن أخيك بطرق لم تجربيها بعد."

ابتسمت ليلى بحذر، وقد بدأت تشعر ببصيص من الأمل مجددًا. "هذا لطف منك، لكني لا أريد أن أثقل عليك بهمومي."

"المساعدة لا تكون ثقلاً، بل فرصة لفعل الخير. دعينا نحاول معًا، ولن نعرف النتيجة إلا إذا حاولنا."

وافقت ليلى بعد تردد، وقررا سويًا أن يبدآ بزيارة الأماكن التي كان يرتادها أخوها. قدمت ليلى قائمة بالأماكن التي كانت تعرفها، وتلك التي تجمعت لديها من خلال تحقيقاتها السابقة.

في اليوم التالي، بدأ عمر وليلى جولتهما بزيارة مقهى قديم كان يفضله أخوها. تحدثا مع النادل الذي كان يعمل هناك منذ سنوات. بدا الرجل متفاجئًا بالسؤال عن شخص من الماضي، لكنه تذكر أخا ليلى.

"نعم، كان يأتي هنا كثيرًا. كان شابًا هادئًا، يحب الجلوس في ذلك الركن هناك. لم أره منذ... منذ تلك الحادثة."

"أية حادثة؟" سأل عمر بفضول وقلق متزايد.

"كان هناك شجار كبير خارج المقهى، قبل حوالي خمس سنوات. تورط فيه بعض الشباب وأخبروني أن أحدهم كان يشبه الشاب الذي تسألون عنه. بعد تلك الليلة، لم أعدأراه مجددًا."

تنفس عمر بعمق، مدركًا أن هذه قد تكون أدلة جديدة قد تقودهم إلى معرفة ما حدث بالفعل. شكر النادل وأعطى ليلى نظرة مشجعة، "لنتابع البحث، ربما هناك من يعرف المزيد."

بعد عدة زيارات لأماكن أخرى وجمع معلومات من أشخاص مختلفين، بدأت قطع اللغز تتجمع شيئًا فشيئًا. الحكايات المتشابهة والأوصاف التي تكررت جعلتهم يقتربون أكثر من فهم ما حدث لأخ ليلى.

في نهاية يوم طويل ومليء بالتحقيقات، جلسا مرة أخرى في نفس المقهى حيث بدآ. كان الغروب يلون السماء بألوان الذهب والبرتقالي، وكأنه يعد بنهايات جديدة، أو ربما بدايات جديدة.

"شكرًا لك على كل هذا، عمر. لا أعرف كيف كنت سأواصل البحث بمفردي دون مساعدتك."

"لا داعي للشكر، ليلى. نحن الآن أصدقاء، والأصدقاء يساعدون بعضهم البعض دائمًا."

ابتسمت ليلى بامتنان، مدركة أن هذه الرحلة قد لا تجلب أخاها إلى جانبها مجددًا، لكنها أعادت شيئًا مهمًا آخر كانت قد فقدته منذ زمن طويل - الأمل والإيمان بالخير في الناس.

وبينما غربت الشمس تمامًا خلف الأفق، كانت ليلى تعرف أن البحث قد لا ينتهي هنا، لكن لديها الآن صديقًا ورفيقًا في هذه الرحلة، مهما كانت النتائج.

في الأيام التالية، استمر عمر وليلى في تتبع خيوط جديدة، يحدوهما الأمل ويقودهما الإصرار. كل يوم كان يحمل معه إمكانية جديدة، لقاء قد يكشف خبايا، أو حقيقة ما زالت مخفية.

ذات صباح، وجدا إعلانًا قديمًا في إحدى الصحف المحلية يتحدث عن حادثة الشجار التي ذكرها النادل. الإعلان كان يطلب شهود عيان للتقدم بمعلومات. مع أن الإعلان كان قديمًا، إلا أنه دفعهما لزيارة محطة الشرطة للسؤال إن كان هناك أي ملف للحادثة.

في محطة الشرطة، التقيا بضابط كان يعمل في القسم منذ سنوات طويلة. بعد بعض الإلحاح والشرح لسبب بحثهم، استجاب الضابط لطلبهم وبحث في الأرشيف. وجد ملفًا يتعلق بالحادث، بما في ذلك أسماء بعض الأشخاص الذين تم استجوابهم.

أحد الأسماء ارتبط بعنوان قديم في ضواحي المدينة. دون تردد، قررا الذهاب إلى هناك ومعرفة إن كان أحد من سكان ذلك العنوان يتذكر أي شيء عن الليلة المشؤومة. وصلا إلى بيت قديم يبدو أنه شهد أياماً أفضل. كان الباب الأمامي متآكلًا والحديقة مهملة، لكن الضوء كان مشتعلًا داخل البيت.

طرقا الباب بتردد، وفتحت امرأة مسنة الباب. بعد التعريف بأنفسهم وسبب زيارتهم، بدت المرأة مترددة في البداية، لكن عندما ذكرا اسم أخ ليلى، تغيرت ملامحها.

"أتذكره، نعم. كان شابًا طيبًا. لم يكن له دور في الشجار ذاك. كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. ساعدته تلك الليلة، كان مصابًا وخائفًا. أعطيته بعض العلاج وساعدته على الاتصال بصديق كان يمكن أن يساعده."

سألتهما ليلى بلهفة: "هل تعرفين إلى أين ذهب بعد ذلك؟ هل تتذكرين اسم الصديق؟"
كان الجو معتمًا والسماء ملبدة بالغيوم، مما يضفي على الليلة شعورًا بالغموض والترقب. عندما فتحت المرأة المسنة الباب، استطاع عمر وليلى أن يلمحا تعبير القلق المرتسم على وجهها. بعد أن قدما لها نبذة عن سبب زيارتهم، بدت المرأة مترددة قليلاً قبل أن تدعوهما للدخول.

"كان الأمر مأساويًا،" بدأت المرأة بعد أن جلسوا في غرفة المعيشة التي كانت تشع بدفء الذكريات القديمة. "كان ذلك اليوم مليئًا بالتوتر، والجميع كان على أعصابه. لم يكن أحد يتوقع أن تتطور الأمور لما وصلت إليه."

أخذت نفسًا عميقًا ثم تابعت، "لكن هناك شيء يجب أن تعرفاه. لم يكن أخوكِ، ليلى، متورطًا بشكل مباشر في الشجار. كان يحاول فقط مساعدة صديقه الذي بدا أنه في مشكلة كبيرة."

ليلى، التي كانت تستمع بانتباه شديد، سألت بلهفة، "هل تعرفين أين يمكننا العثور على هذا الصديق؟ ربما يستطيع أن يخبرنا بما حدث بالضبط."

"كان اسمه أحمد،" أجابت المرأة. "لم أره منذ تلك الليلة، لكني أعتقد أنه كان يعمل في مرآب لتصليح السيارات على الطرف الآخر من المدينة."

مع هذه المعلومة الجديدة، شعر عمر وليلى بتجدد الأمل. شكرا المرأة على كرمها ومعلوماتها وغادرا البيت سريعًا، متوجهين نحو المرآب الذي ذكرته. كان الوقت يمضي، وكل دقيقة كانت تشعرهما بالإلحاح أكثر في العثور على الحقيقة.

وهكذا، بخطوات متسارعة وقلوب مليئة بالأمل والقلق، استمرت رحلتهم في ليلة لم تكن كأي ليلة

بعد مغادرة منزل المرأة المسنة، كان الهواء باردًا والريح تصفر بين الأشجار المتناثرة على جانبي الطريق. توجه عمر وليلى نحو المرآب الذي ذكرته المرأة، وكلما اقتربا، كان القلق يزداد في قلبيهما.

وصلا إلى المرآب ووجداه مكانًا قديمًا، الأبواب الفولاذية المتآكلة تحكي قصص السنين والعمل الشاق. دخل عمر أولاً، متبوعًا بليلى التي كانت تحاول كتم صوت خطواتها، وكأنها تخشى أن يتبدد الأمل بمجرد أن يسمعهم أحد.

في الداخل، كانت الأضواء خافتة والجو مليء برائحة الزيت والمعدن. رأوا رجلًا متوسط العمر، يعمل بجدية، مركزًا على إصلاح محرك سيارة قديمة.

"عذرًا، هل أنت أحمد؟" سأل عمر بنبرة محترمة.

رفع الرجل نظره ببطء، مسح يديه بقطعة قماش قديمة قبل أن يجيب، "نعم، أنا هو. كيف يمكنني مساعدتكما؟"

ليلى تقدمت قليلاً، وبصوت متردد قالت، "نحن نبحث عن معلومات حول ليلة الشجار الكبير قبل بضع سنوات. قيل لنا أنك كنت هناك."

بدا على وجه أحمد تغير طفيف، كأن ذكرى تلك الليلة أعادته إلى أحداث لم يكن يود تذكرها. لكن بعد لحظة صمت، أجاب بصوت خشن، "لم يكن يومًا جيدًا بالنسبة لأحد."

استمر أحمد في الحديث، شارحًا كيف كانت الأمور تتصاعد بين بعض الأفراد في الحي، وكيف وجد أخو ليلى نفسه متورطًا عن غير قصد. وضح كيف حاول الأخ الفرار من الموقف لكن الأمور خرجت عن السيطرة سريعًا.

"لكن هناك شيء يجب أن تعرفاه،" قال أحمد بجدية، "أخوكِ لم يكن مذنبًا، ليلى. كان يحاول فقط مساعدة صديق كان في ورطة. ولولا تدخله، لكانت الأمور قد انتهت بشكل أسوأ بكثير."

كانت هذه المعلومات تمثل بصيصأمل جديد لعمر وليلى. شعرا بنوع من الراحة لمعرفة أن أخوها لم يكن مشوه السمعة كما اعتقد الكثيرون. ومع ذلك، كانت هناك حاجة لمزيد من التفاصيل لتكوين صورة كاملة عما حدث بالفعل.

"هل تعرف أين يمكننا العثور على الآخرين الذين كانوا متورطين؟ أو أي شخص آخر قد يكون قادرًا على تقديم معلومات إضافية؟" سأل عمر، وهو يحاول تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات.

أحمد تأمل قليلاً قبل أن يجيب، "هناك شخص قد يستطيع مساعدتكم. اسمه كريم، وكان يملك البار الذي بدأ فيه كل شيء. لقد اعتزل العمل منذ ذلك الحادث، لكنه قد يكون مستعدًا للحديث إذا علم أنكم تحاولون تنظيف سمعة شخص بريء."

وجه أحمد نحو الخارج وأشار إلى طريق ضيق يؤدي إلى الجزء القديم من المدينة، حيث كان يقع البار سابقًا. "ستجدونه هناك. ابحثوا عن منزل صغير بجانب النهر، يمكن أن يكون مترددًا في البداية، لكن أظهروا له أن نواياكم صادقة."

بفضل المعلومات التي قدمها أحمد، أصبح لدى عمر وليلى مسار جديد لاتباعه. قدما شكرهما وغادرا المرآب، روح التحدي تتجدد فيهما مع كل خطوة تقربهما من الحقيقة.

الليل كان يبدأ في الانحسار، وأولى خيوط الفجر بدأت تلوح في الأفق. كان هناك شعور بأن هذا اليوم الجديد قد يجلب معه الأجوبة التي طال انتظارها. ومع هذه الأفكار، توجها نحو البار القديم، حيث ينتظرهما الماضي وربما مفتاح اللغز الذي سيفك أسرار تلك الليلة المشؤومة.

بينما يسير عمر وليلى نحو البار القديم، كان الصباح يكسر الظلام شيئا فشيئا، وكأنه يعكس الأمل الجديد الذي تشع به قلوبهما. كان الطريق ملئ بأوراق الخريف المتساقطة التي تحكي قصص الماضي، ممزوجة بروائح الأرض الرطبة التي تنعش الأنفاس.

وصلا إلى المكان الذي وصفه أحمد، منزل صغير متهالك على جانب النهر، ذو نوافذ مغبرة وباب خشبي قديم. قبل أن يطرق عمر الباب، شعر بيد ليلى تمسك ذراعه بقوة، تعبيراً عن التوتر والأمل المختلط.

طرق عمر الباب بثقة، وانتظرا. سمعا خطى بطيئة تقترب من الباب، وسرعان ما فُتح ليكشف عن رجل في الستينيات من عمره، ذو وجه محفور بخطوط الزمن وعيون تعكس حكمة السنين وثقل الذكريات.

"مرحبًا، نحن نبحث عن كريم. هل أنت هو؟" سأل عمر بنبرة مهذبة.

"نعم، أنا كريم. ما الذي يجلبكما إلى هذا المكان البعيد في هذه الساعة المبكرة؟" رد الرجل بصوت رزين.

ليلى تقدمت قليلاً، وبدأت تشرح بكلمات متأنية، "نحن هنا لأننا نحاول فهم ما حدث في ليلة الشجار الكبير. نحن نعتقد أن أخي كان ضحية لظروف خارجة عن إرادته ونحن بحاجة إلى مساعدتك لإثبات براءته."

كريم أومأ برأسه ببطء، ودعاهما للدخول. البيت كان متواضعًا ومليئًا بالتحف التي تعود إلى عقود مضت. جلسوا حول طاولة خشبية قديمة حيث سكب كريم بعض الشاي.

"لقد كانت تلك الليلة فوضوية، وأنا لم أعد أدير البار، لكنني كنت هناك. وأنا أتذكر أخوكِ، ليلى. كان يحاول فصل القتال، لكن أحد يستمع إليه"، تابع كريم، وهو ينظر إلى فنجان الشاي الذي يدور بين يديه. "كنت في الخلف أحضر بعض الطلبات عندما سمعت الصراخ."

ليلى انحنت قليلاً نحو الأمام، تستمع بانتباه شديد، والأمل يتزايد في عينيها مع كل كلمة ينطقها كريم. "هل رأيت ما حدث؟" سألت بصوت خافت.

"لم أرَ كل شيء، لكنني شاهدت كيف تدخل أخوك ليمنع العراك. كان يحاول سحب أحد الرجال بعيداً عن الآخر. لكن الأمور تصاعدت بسرعة، وكما يحدث دائماً، عندما يكون الجميع في حالة توتر، لا أحد يرى النوايا الحقيقية، فقط الأفعال."

عمر تدخل، "هل تتذكر أي تفاصيل أخرى قد تساعدنا؟ مثلاً، هل هناك شهود آخرون كانوا هناك؟"

كريم تنهد، ووضع فنجان الشاي جانباً. "هناك رجل، اسمه جمال، كان يعمل كنادل في تلك الليلة. هو شخص هادئ ويلاحظ الكثير. ربما يكون قد رأى ما لم أستطع رؤيته."

ليلى وعمر نظرا إلى بعضهما بنظرة تحمل خليطًا من الإغاثة والتحدي. "هل يمكنك أن تخبرنا أين نجده؟" سأل عمر بصوت حازم.

كريم وافق وكتب عنوان جمال على قطعة من الورق. "لكن كونوا حذرين، جمال ليس من السهل التحدث إليه، خاصة عندما يتعلق الأمر بتلك الليلة."

شكراً لكريم على مساعدته، غادر ليلى وعمر البيت، مع العنوان في يدهما والأمل يتجدد في قلوبهما. كان الطريق أمامهما طويلاً، لكن الخيوط الأولى لتجميع الحقيقة بدأت تظهر، ومعها، فرصة لتبرئة أخي ليلى.

بعد مغادرتهما منزل كريم، سارع ليلى وعمر بخطوات متوجسة نحو العنوان الذي أعطاهم إياه. الشوارع كانت تزداد ازدحاماً مع اقتراب ساعات الصباح الأولى، والناس يبدأون يومهم، غافلين عن القصة التي تتكشف بجانبهم.

وصلا إلى مقهى صغير يقع في زاوية شارع هادئ، حيث يعمل جمال كمدير. بعد تردد قصير، دخل عمر وليلى المقهى وتوجها مباشرة نحو الرجل الذي يقف خلف الكاونتر، شخص قوي البنية بنظرات حادة.

"جمال؟" سأل عمر بصوت ثابت.

"نعم، هذا أنا. كيف يمكنني مساعدتكما؟" رد جمال بنبرة حذرة.

ليلى أخذت نفساً عميقاً وشرحت السبب وراء زيارتهم، "نحن هنا بشأن ليلة الشجار في البار الذي كنت تعمل فيه. نحتاج معرفة ما شاهدته."

جمال تنهد بثقل، ودعاهما للجلوس على طاولة في ركن المقهى. بعد لحظة صمت، بدأ يروي ما حدث. "كانت الأمور تتصاعد بسرعة، ولكن أخوكما كان بالفعل يحاول تهدئة الأمور، ليس هو من بدأ القتال."

"هل يمكنك أن تشهد بهذا في المحكمة؟" سأل عمر بأمل.

"أنا مستعد للشهادة. من الظلم أن يدفع شخص بريء ثمن شيء لم يفعله."

مع هذه الكلمات، شعر ليلى وعمر بارتياح كبير. توجهوا إلى المحامي لإعداد القضية مستندين إلى شهادة جمال.

جاء يوم المحاكمة، وكانت القاعة مليئة بتوتر ملحوظ. جمال شهد بكل ما رآه، وكيف كان أخو ليلى يحاول فقط إنهاء القتال. بعد ساعات من المداولة، خرج القاضي بالحكم، معلناً براءة أخي ليلى.

الفرح غمر القاعة، وعناق دافئ جمع ليلى وأخيها، وهما يشكران عمر وجمال على شجاعتهما ودعمهما. بعد عودتهمن المحكمة، قرروا الاحتفال بهذا النصر الصغير ولكن المهم في حياتهم. تناولوا العشاء معاً حيث تبادلوا القصص والضحكات، ممتنين للعدالة التي تحققت في النهاية.

في تلك اللحظة، أدركت ليلى وعمر أنهما لم يكونا فقط في مهمة لإثبات براءة أخي ليلى، بل كانا يبنيان أساساً لصداقة قوية ودائمة. لقد تعلموا من تلك التجربة قيمة الصبر، الإصرار وأهمية التماسك الأسري.

وفي تلك الليلة، وهم يسيرون تحت سماء مليئة بالنجوم، وعد كل منهم الآخر بأن يظلوا دائماً إلى جانب بعضهم البعض، في السراء والضراء.

النهاية.












تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

"ظلال أركانتا: سر الأومبرا".

الغابة المسكونة